الصف الأول ابتدائي

كتب / سام الغُباري
بالتزامن مع يوم المعلم العالمي .. سأتذكر ما حدث، كنت صغيرًا للغاية، لم أتجاوز الرابعة وألحقني أبي بمعية شقيقي الكبير “فواز”، الذي اشتهيت حقيبة كحقيبته، وكتبه ودفاتره وأقلامه.
أتذكر أن معلم الصف واسمه “حلمي” كان يضربني بعنف، وكنت أبكي، أتذكر دموعي ساخنة على حروفي كأنها اليوم، وجسد غض مثل ساق سنبلة في مواجهة أستاذ هائج مثل ثور مشدود إلى أساليب التعليم الصارم
قال : إن لساني أعوج، كنت أنطق السين ثاءًا، ومخارج حروفي سيئة، وأصبحت “بلقيس” – “بلديث”، ووجه المعلم محتقن ويده تهوي بعصا غليظة مثل مقصلة على كفي الصغيرة المرتعشة، ولم يشفع لي صوت نحيبي، مؤكدًا أن هذا “دلع” مرفوض !
في ذلك اليوم، إرتدى جدّي حزامه المُذّهب اللامع وجنبيته الثمينة، ورداءً كشميريًا أسود يصل إلى حدود ركبتيه، وشال مطوق على رأسه، وآخر ينثني على خصره ويتدلى من كتفيه، وحوله تحملق بعض أعمامي الذين جاؤوا ليشاهدوا صغارهم الجدد في المدرسة .
وفُتِح الباب، وبدوت غارقًا في دموعي، والمعلم جاثيًا على طاولة الصف يفترس أصابعي الصغيرة، فصعق جدّي، أتذكر هيبته الفاتنة ومن وراءه رؤوس أعمامي تشرئب بأعناقها لتكتشف سبب صرخة جدّي المدوية .
وتقهقر المعلم إلى الوراء قليلًا، مُبررًا بلهجته المصرية “الواد لسانه معووج”، وزمجر “أبي حسن” وأستل جنبيته من غمدها وهرع نحوه، كمن يقول “لا نجوت إن نجا”، وتمنيت لو أنه يغمدها في حنجرته فأرى الدم ينبثق مثل شلال أحمر !
شق نصل الجنبية الفولاذي فراغ الفصل، وصوت جدّي الضخم يصيح هائجًا “عادو صغير يا قليل الدين”، وارتعد الأستاذ، تراجع بحدة نحو السبوّرة ملتاعًا، خائفًا، وأتذكر أني ابتسمت رغم المفاجأة المرعبة، ورغم النصل المميت الذي يقترب كل لحظة من عنق الأستاذ حلمي، حتى تلطفت أيدي أعمامي بتكبيل أبيهم ومنعه من إلحاق الأذى به.
في تلك اللحظة سقطت عصا الأستاذ الطويلة على الأرض، وسقط معها العقاب إلى نهاية السنة الدراسية، عقابي وعقاب كل طلاب الصف .
وجمهرت المدرسة بأسرها، وحضر الأساتذة، والمدير والوكلاء، وكنت وسطهم واقفًا على طاولة عالية، وصوت “أبي حسن” يهز أركان مدرسة أبي بكر الصديق، وكانوا كلما حاولوا تهدئته، جاء تبرير سخيف من الأستاذ يعيده إلى حالته الرهيبة، ثم حملني بين ذراعيه عائدًا إلى المنزل، فشعرت بأمان لا نهائي، خشيت بعد تلك المعركة من الإنتقام، أن يضربني الأستاذ بعنف أشد، احتضنت رقبة جدّي وأسندت رأسي الصغير على شاله الأبيض، كانت رائحته عطرة فوّاحة، وأناقته مثالية تعبر عن هويته اليمانية، كصحابي شق حدود الزمن بنصل جنبيته قادمًا من العهد الأخير للشهامة .
وكان الأستاذ يرمقني بطرف عينه مغتاظًا من هذا “المفعوص” وعبارات العتاب واللوم تقرع رأسه الأصلع مثل سياط الجلد.
إلا أنه لم يجرؤ مرة أخرى على الاقتراب مني، وفي نهاية العام نجحت بتقدير عالٍ .. و ..
*غدًا نبدأ قصة الصف الثاني إبتدائي*
#سام_الغباري